كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل في خصائص الأقصى: إنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى. بيت نوه الله به في الآيات المفصلة، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة. لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب، وهو قبلة الصلاة في الملتين، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين، وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين. لا تشدُّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه. انتهى، ومن فضائله ما رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم صححه، عن ابن عَمْرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثًا، فأعطاه اثنتين وأنا أرجو يكون أعطاه الثالثة».
سأله حكمًا يصادف حكمه فأعطاه إياهـ.
وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياهـ.
وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد- يعني ببيت المقدس- خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك».
وروي أن ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه؛ تجريدًا لقصد الصلاة.
وقال الشيرازي في عرائس البيان: كان بداية المعرج الذهاب إلى الأقصى؛ لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم، وهناك بقربه طور سينا، وطور زيتا، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى في تلك الجبال، مواضع كشوف الحق، لذلك قال: {بَارَكْنا حَوْلَهُ}. انتهى.
والالتفات في: {بَارَكْنا} لتعظيم ما ذكر؛ لأن فعل العظيم يكون عظيمًا، لا سيما إذا عبَّر عنه بصيغة التعظيم، والنكتة العامة تنشيط السامعين.
وقوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} إشارة إلى حكمة الإسراء. أي: لكي نُرِي محمدًا صلى الله عليه وسلم من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل، مسيرة شهر، ومشاهدة بيت المقدس، وتمثل الأنبياء له، ووقوفه على مقاماتهم العلية.
قيل: أراد تعالى أن يريه صلى الله عليه وسلم من الآيات الحسية بعد ما أراه الآيات العقلية؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ودفع الوساوس من العقلية؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحس والعيان، وقد تعترض الشبهة والوساوس في العقليات؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو. فشاء عز وجل أن يري رسوله آيات حسية فتدفع المنصفين إلى قبولها والإيمان بها والإقرار له بالرسالة؛ إذ ليس ذلك عمل سحر ولا افتراء ولا أساطير الأولين، كذا يستفاد من التأويلات لأبي منصور.
وما أحسن ما قاله ابن إسحاق: كان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه. فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثباتًا لمن آمن بالله وصدق، وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين. فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء ليريه من آياته ما أراد. حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} أي: السميع لأقوال عباده وأفعالهم، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
تنبيهات:
الأول: دلت هذه الآية على ثبوت الإسراء، وهو سير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليلًا، وأما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش، فهذه الآية لا تدل عليه، ومنهم من يستدل عليه بأول سورة النجم، والكلام عليه ثمة.
الثانية: ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث، وأنه قبل هجرته [في المطبوع: هجرة]. بسنة. قاله الزهري وابن سعد وغيرهما، وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وقال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة.
وفي إنسان العيون: أن تلك الليلة كانت ليلة سبع عشرة، وقيل: سبع وعشرين خلت من ربيع الأول، وقيل: ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان، وقيل: سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر، وقيل: من رجب، واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي، قال: وعليه عمل الناس، والله أعلم.
الثالث: في زاد المعاد لابن القيم: كان الإسراء مرة واحدة، وقيل: مرتين: مرة يقظة ومرة منامًا، وأرباب هذه القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله: «ثم استيقظت» وبين سائر الروايات، ومنهم من قال: بل كان هذا مرتين: مرة قبل الوحي؛ لقوله في حديث شريك وذلك قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي، ومربين بعده، وكل هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات، جعلوه مرة أخرى. فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع، والصواب الذي عليه أئمة النقل؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبًا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارًا! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسًا، ثم يقول أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى الخمسين ثم يحطها عشرًا عشرًا؟!.
الرابع: قال القاضي عياض، عليه الرحمة، في الشفا: اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده؟ على ثلاث مقالات: فذهبت طائفة على أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي، وإلى هذا ذهب معاوية، وحكي عن الحسن والمشهور عنه خلافه وإليه أشار محمد بن إسحاق، وحجتهم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60]، وما حكوا عن عائشة: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: «بينا أنا نائم»، وقول أنس: وهو نائم في المسجد الحرام وذكر القصة، ثم قال في آخرها: فاستيقظ وأنا بالمسجد الحرام.
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا هو الحق، وهذا قول ابن عباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدري وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج، وهو دليل قول عائشة، وهو قول الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين، وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين.
وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبي وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه. قال هؤلاء: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
ثم اختلفت هاتان الفرقتان: هل صلى ببيت المقدس أم لا؟ ففي حديث أنس وغيره صلاته فيه، وأنكر ذلك حذيفة وقال: والله! ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا.
ثم قال القاضي عياض: والحق في هذا والصحيح، إن شاء الله، أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل، إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة؛ إذ لو كان منامًا لقال: بروح عبده ولم يقل {بعبده} وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به؛ إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر. بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته، إلى ما ذكر في الحديث، من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس أو في السماء على ما روى غيره، وذكر مجيء جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال: ومن معك؟ فيقول: محمد، ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك.
وفي بعض هذه الأخبار: «فأخذ، يعني جبريل، بيدي، فعرج بي إلى السماء» إلى قوله: «ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام»، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره. قال ابن عباس: هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم، لا رؤيا منام.
وعن الحسن فيه: «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت، فجلست فلم أر شيئًا، فعدت لمضجعي». ذكر ذلك ثلاثًا، فقال في الثالثة: «فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد، فإذا بدابة»، وذكر خبر البراق.
وعن أم هانئ: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي تلك الليلة. صلى العشاء الآخرة ونام بيننا. فلما كان قبيل الفجر أَهَبْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى الصبح وصلينا قال: يا أم هانئ! لقد صليت معكم العشاء الآخرة، كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون، وهذا بيِّنٌ في أنه بجسمه.
وعن أبي بكر من رواية شَدَّاد بن أوس عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به: طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك. فأجابه: أن جبريل حمله إلى المسجد الأقصى.
وعن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة»، وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة، فتحمل على ظاهرها.
وعن أبي ذرِّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ثم أخذ بيدي فعرج بي».
وعن أنس: «أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم»، وعن أبي هريرة: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه»، ونحوه عن جابر.
وقد روى عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها».
ثم قال القاضي عياض في إبطال حجج من قال: إنها نوم: احتجوا بقوله: {وَمَا جَعَلنا الرُّؤْيا} فسماها رؤيا. قلنا: قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} يرده؛ لأنه لا يقال في النوم {أسرى}.
وقوله: {فِتنَةً للِنَّاسِ} يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص؛ إذ ليس في الحلم فتنة، ولا يكذب به أحد؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة. على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية. فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك، وقيل غير هذا.
وأما قولهم: إنه قد سماها في الحديث منامًا، وقوله في حديث آخر: «بين النائم واليقظان»، وقوله أيضًا: وهو نائم، وقوله: «ثم استيقظت»، فلا حجة فيه؛ إذ يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم. أو أول حلمه والإسراء به وهو نائم، وليس في الحديث أنه كان نائمًا في القصة كلها إلا ما يدل عليه: «ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام» فلعل قوله: «استيقظت» بمعنى أصبحت. أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته، ويدل عليه: أن مسراه لم يكن طول ليلة، وإنما كان في بعضه، وقد يكون قوله: «استيقظت وأنا في المسجد الحرام» لما كان غَمَرَهُ من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض، وخامر بطنه من مشاهدة الملأ الأعلى، وما رأى من آيات ربه الكبرى. فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام، ووجه ثالث: أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه، ولكنه أسرى بجسده وقلبه حاضر، ورؤيا الأنبياء حق. تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا. قال: تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله، ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات.
ووجه رابع: وهو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع، ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد عن هَمَّام: «بينا أنا نائم»، وربما قال: «مضطجع»، وفي رواية هدبة عنه «بينا أنا في الحطيم»، وربما قال: «في الحجر مضطجع»، وقوله في الرواية الأخرى: «بين النائم واليقظان» فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبًا، وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم، وذكر شق البطن، ودنوُّ الرب، الواقعة في هذا الحديث، إنما هي من رواية شريك عن أنس. فهي منكرة من روايته. انتهى كلام عياض، وبقيت له بقية من شاء فليراجعها.
الخامس: جملة الأقوال في الإسراء والمعراج، على ما حكاه ابن القيم في زاد المعاد ستة: بروحه وجسده وهو الذي صححوه، وقيل: كان ذلك منامًا، وقيل: بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا منامًا، وقيل: كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء منامًا، وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة ومرة منامًا، وقيل: بل أسري به ثلاث مرات، وكان ذلك بعد البعث بالاتفاق، وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك قبل أن يوحى إليه، فقيل: هو غلط، وقيل: الوحي هنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة، والمراد: قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام، وقد قدمنا أن عائشة ومعاوية والحسن، نقل الأكثرون عنهم؛ أنها رؤيا منام، وكذا حكى ابن جرير عن حذيفة، إلا أن ابن القيم نبه على دقيقة غريبة. قال رحمه الله: نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء منامًا، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا كان منامًا، وإنما قالا: أسرى بروحه ولم يفقد جسده، وفرق بين الأمرين. فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالًا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة. فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان: طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان منامًا، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عز وجل. فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض. فالذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة، ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم. لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى شق بطنه وهو حيّ لا يتألم؛ كذلك عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة، ومن سواه صلى الله عليه وسلم، لا تنال ذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة. فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان، وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت، وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء، ومع هذا فلها إشراف على البدن، وإشراق وتعلق به. بحيث يرد السلام على من سلم عليه، وبهذا التعلق رأى موسى قائمًا يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها. فرآه يصلي في قبره، ورآه في المساء السادسة. كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرًا هناك، وبدنه في ضريحه غير مفقود، وإذا سلم عليه المسلم، ردَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، ولم يفارق الملأ الأعلى، ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا؛ فلينظر إلى الشمس في علوِّ محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها. هذا، وشأن الروح فوق هذا. فلها شأن وللأبدان شأن، وهذه النار تكون في محلها، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها. مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم. فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف.